بناء سلام شامل في سوريا – تقييم نقدي لوثيقة “الإطار التنفيذي للحل السياسي”

مقالة مشتركة بقلم كل من البروفيسورة د. إيفا ماريا بيلسر والدكتور زوغن كايل1، تمت الترجمة من قبل فريق عمل مكتب جنيف للمجلس الوطني الكُردي في سوريا

مع استئناف المعارك في أجزاء كثيرة من سوريا، تلاشى التفاؤل الذي كان الكثيرون يتطلعون إليه منتصف شهر أيلول (سبتمبر)، حين أدت الهدنة إلى وقف معظم أعمال العنف في البلاد. في الوقت الذي يتخاصم فيه الدبلوماسيون الأمريكيون والروس حول قصف قوات تابعة للحكومة السورية وأيضاً قص قافلة مساعدات الأمم المتحدة في سوريا، يبدو أن العودة إلى طاولة المفاوضات في المستقبل القريب غير مرجّحة. ومع ذلك فقد أكّد الرئيس الأمريكي باراك أوباما مؤخراً أنه لن يكون هناك حسم عسكري للصراع السوري، عوضاً عن ذلك يجب أن تؤدي الجهود الدبلوماسية إلى تحقيق وقف لاطلاق النار، والذي سيكون بدوره أساساً لمفاوضات السلام ونظام جديد مابعد الحرب في سوريا.
على ضوء هذه التطورات من الأهمية بمكان أن تبقى قوى المعارضة في سوريا كقوى دافِعة نحو التغيير وتقوم بتقديم خطوط عريضة وواضحة لنظام سياسي مستقبلي يشمل جميع السوريين ويقطع ويُنهي عشرات السنيين التي مرت على البلاد في عهد ديكتاتورية حزب البعث ونظام الأسد. ولذلك من المهم أن تقوم المعارضة بصياغة مقترحات لمشاريع سياسية تستند على أسس الديمقراطية والتشاركية والقطيعة مع سياسات الماضي. رؤية دولة تشاركية تُعطي جميع السوريين الشعور بأنه وطنهم وهو العنصر الأساسي وشرط لمفاوضات حقيقية تُعطي آمالاً لتحقيق سلامٍ دائمٍ. في الوقت الذي تستحق فيه هكذا رؤى الدعم من قبل المجتمع الدولي، فإنّ أية خطةٍ لنظام ما بعد الحرب في سوريا تتضمن استمراراً لإخفاقات الماضي لا تستحق الدعم الدولي.
لهذا السبب فإنه من المُقلق ما قامت به لجنة التفاوض العليا لقوى الثورة والمعارضة السورية والتي تضم غالبية المجموعات المعارضة للحكومة، وذلك بنشرها لوثيقة “الإطار التنفيذي للحل السياسي” استناداً إلى بيان جنيف، حيث لم تتضمن الوثيقة القضايا المذكورة أعلاه. يبدو أنه من الضروري على الدبلوماسيين وبقية القوى المؤثّرة في الأزمة السورية أن يقوموا بإلإشارة إلى هذا النقص وعدم القبول بهذا الإطار كمعيار أساسي للمفاوضات المستقبلية.
وثيقة “الإطار التنفيذي” تطرح ثلاث تساؤلات إشكالية، أولاً: تمّ البدء في بداية الوثيقة بالمقطع التالي “سوريا جزءٌ لا يتجزأ من العالم العربي واللغة العربية هي اللغة الرّسمية في الدولة”. هذه المقولة تتجاهل تماماً حقيقة أنّ سورية في الواقع دولةٌ متعددة الأعراق والأديان والثقافات، حيث يعيش الأكراد إلى جانب الإيزيديين والمسيحيين وبقية المجموعات التي لا تُعرّف هويتها بالثقافة العربية. إنّ التركيز على إعتبار اللغة العربية هي اللغة الرسمية الوحيدة للبلاد، والإسلام هو دين الدولة هو إقرارٌ نحو توجه سياسي خطير. إنّها تعني فرض هيمنة الأكثرية في البلاد على الكثير من الأقليات وهي فشلٌ في الإعتراف بالمساهمات التي أضافتها المجموعات العرقية والدينية والثقافية الأخرى للثقافية السورية والقيم الوطنية السورية، كما مساهمتها في محاربة نظام الأسد. نحن نشعر بالقلق حيال هذه الفقرة لأنها تُخاطر باستبعاد الكثير من غير العرب السوريين عن الدولة السورية المستقبلية وتُنفرهم بها وهي لا تُشكّل بالتالي عامل استقرار. في الوقت الذي تعترف فيه النقاط 5-7 من الوثيقة بوجود مجموعات أخرى في سورية، إلا أنّ لهجة الوثيقة والربط بالمجمل بالثقافة العربية، يُصعّب على المجموعات الأخرى أن ترى في هذه الوثيقة إطاراً يشمل هويتها ومقترحاً لدولة سورية المستقبلية.

ثانياً: في الفقرة التالية من الوثيقة والتي تُسلّط الضوء على العملية الإنتقالية يتجلّى تحت البند رقم 50 بأن “نظام الإدارة المحلية يجب أن يقوم على مبدأ اللامركزية الإدارية للسلطات والمسؤوليات.” كباحثين في شؤون اللامركزية والديمقراطية نعمل بشكلٍ خاصٍ على ما ذُكر في هذه الفقرة. جميع البلدان في العالم تستخدم عناصر اللامركزية الإدارية لضمان تطبيق القرارات التي اتخذتها الحكومة المركزية في جميع أنحاء البلاد بشكلٍ فعال. ولكن في الدول ما بعد الحرب والتي يجب أن تكون سورية المستقبل أيضاً واحدةً منها حيث أدت ديكتاتورية الحزب الواحد إلى تركيز السلطة بيد مجموعةٍ وقمع مجموعات معينة وإعادة التوطين القسري لآخرين والتي أفضت إلى سياسات التعريب، يجب عليها الإبتعاد بشكل كامل وواضح عن السياسات المركزية للنظام السابق. من أجل بناء الثقة بين المجموعات المتعددة وضمان إزدهار الديمقراطية على جميع المستويات يجب أن تُؤخذ قضية تقاسم السلطة على محمل الجد. وهذا يتطلب وجود اتفاقٍ مبنيٍ على قواعد واضحة لتقاسم السلطة على المستوى المركزي وكذلك تصميم وتنفيذ اللامركزية السياسية الحقيقية، والتي تُرضي بدورها مختلف الفئات في البلاد. لقد عانى الأكراد على وجه الخصوص من حكم حزب البعث ولكن أيضاً مجموعات كثيرة أخرى عانت من ذلك. من أجل ضمان حمايتهم وضمان تشاركيةٍ عادلةٍ وديمقراطية في دولة سورية المستقبل فإنّه من الضروري جداً أن يكون بإمكان المجموعات حق المشاركة المناسبة في الدولة السورية وضمان حقوقهم في تقرير مصيرهم الداخلي ومنحهم الصلاحية لإدارة شؤونهم بأنفسهم. في المقابل فإنّ التركيز على اللامركزية الإدارية هو رفضٌ للاستقلالية الذاتية المالية والسياسية لمناطق متعددة من سورية تعيش فيها الأقليات. في مقابل ذلك فإنّ التعهد بإقامة نظام تقاسم حقيقي للسلطة سيسمح ليس فقط لجميع المجموعات لربط هويتها بسورية ديمقراطية والمساهمة في استقراها فحسب، بل سيضمن أيضاً ثقة جميع الأطراف المتنازعة بدولتهم وسيكونون قادرين ومستعدين للعيش بسلام مع جيرانهم. إنّ تجاهل مطالب حق تقرير المصير داخلياً واستمرارية هيمنة العرب من خلال الدولة المركزية سيُمهّد الطريق لنزعاتٍ إنفصاليةٍ جديدةٍ. المبدأ العام القائل بأن الإستبعاد يؤدي إلى العنف والحركات الإنفصالية يجب أن يُؤخذ هنا بعين الإعتبار. هناك الكثير من الأمثلة التي تُظهر كيف أدّى استبعاد مجموعاتٍ معينةٍ إلى تشكيل أرضيةٍ خصبةٍ لأشكال جديدة للعنف ونشوء حركات إنفصالية. من كوسوفو ووصولاً إلى جنوب السودان يمكن رؤية هذا النمط بوضوح – الإستبعاد يؤدي إلى العنف. وهذا النمط غير مُستغرب، فعندما لا يتم إعتبار مجموعةٍ معينةٍ جزءاً من الثقافة الوطنية بل يتم تهميشهم وحرمانهم حينها ستُطوّر هذه المجموعة عاجلاً كان أم آجلاً رغبتها في تأسيس دولةٍ خاصةٍ بها. من أجل بناء سورية ما بعد الحرب، سورية ديمقراطية تشاركية وآمنة يتم فيها احترام وحماية حقوق الجماعات الثقافية والدينية واللغوية المتعددة فإنّه من الضروري التبصّر في النماذج المختلفة من الحكم الذاتي والفيدرالية للبلاد وتنفيذها.
ثالثاً: في حين تنص فقرة المبادئ الأساسية على الإلتزام بمبدأ “التوافقية” فإن النقطة رقم 11 من الفقرة نفسها يُبيّن بشكلٍ لا لبس فيه أنّ قاعدة التوافق في الوصول إلى القرارات هي المُقررة عند إتخاذ قراراتٍ تتعلق بعناصر معيّنة من المجتمع السوري، ولكن في حال عدم التوصول إلى حالة التوافق حينها يتمّ الإقرار وفق مبدأ “أغلبية الثلثين”.2 هذه القاعدة إشكاليةٌ جداً حيث يمكن أن تؤدي إلى استبعاد مجموعات مهمّة بمن فيهم ممثلي الأكراد. من الأهمّية بمكان أن يكون نظام الحكم في سورية ما بعد الحرب قائماً وفق قاعدة التوافقية والتشاركية. التركيز على أغلبية الثلثين من الممكن أن تؤدي إلى استبعاد وحرمان مجموعاتٍ مهمّة، كما تُخاطر بالتأثير سلباً على مفاوضات السلام. المجموعات الصغيرة ستتخوّف من عدم النظر إلى مطالبها المشروعة بشكل جدّي. على العكس من ذلك يُمكن أن يؤدي في النهاية إلى نشوء “المفسدين”3 ويُشكّل أرضيةً لصراعٍ مستقبلي. يُمكن تفهّم الرغبة في وضع قوانين تضمن عدم عرقلة مجموعات أحادية القرارات واسعة النطاق، إلّا أنّه لا يجب أن يعني ذلك استبعاد تلك المجموعات أيضاً. عوضاً عن ذلك يمكن تبنّي نظام “الأغلبية المزدوجة”، والتي تتطلب بموجبها جميع القرارات موافقة أغلبية جميع ممثلي الهيئة العليا للتفاوض وموافقة غالبية ممثلي كل مجموعة مُمثّلة فيها. هكذا قاعدة ستضمن عدم قدرة أشخاص بمفردهم عرقلة القرارات وفي المقابل يُساهم في شمل جميع المجموعات وجعل أصواتها مسموعةً. علاوةً على ذلك فإنّ هذا النظام يُجبر جميع أعضاء الهيئة العليا للتفاوض للعمل معاً من أجل الوصول إلى حلٍ توافقي، وأخذ المعنين في الطرف المقابل بشكل جدي. هذا سيُساعد على بناء الثقة والعمل بإخلاص في المفاوضات.
دولة سورية المستقبل يجب أن تُبنى على مبادئ التشاركية، الثقة والإعتراف بالتنوّع. وهذا يشمل القطيعة مع الممارسات غير الديمقراطية في الماضي، وهو حجر الأساس لبناء دولةٍ جديدةٍ متعددة الأعراق والأديان تعتز وتفتخر بتنوع نسيجها الوطني وتلتزم بالتشاركية والوحدة كقاعدة لهذه الدولة الجديدة. لهذه الأسباب نعتقد أنّ “وثيقة الإطار التنفيذي” التي نوقشت أعلاه، لا تُمهّد الطريق لسلامٍ دائم. على العكس تماماً، في الوقت الذي احتوى فيه على بعض الأسس المعقولة للمفاوضات المستقبلية إلّا أنّه حمل في الوقت نفسه أيضاً بذوراً لنزاعاتٍ مستقبلية.
نحن نؤمن بأنّ هذه الإشكاليات يجب معالجتها. هناك الكثير من الأمور على المحك في المفاوضات، ولذلك من المهم ألا يوفر نظام الحكم الجديد أرضيةً خصبةً لصراعاتٍ جديدةٍ.

 

البروفيسورة د. إيفا ماريا بيلسر، الرئيسة المشتركة لمعهد الفيدرالية في جامعة فريبورغ السويسرية وأستاذة القانون الدستوري.

الدكتور زوغن كايل، أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية في جامعة كانتبري البريطانية.